فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{إِنّ الذين يخْشوْن ربّهُم بالغيب}
ثم وصف تعالى أهل الإيمان، وهم {الذين يخشون ربهم}، وقوله تعالى: {بالغيب} يحتمل معنيين، أحدهما: {بالغيب} الذي أخبروا به من الحشر والصراط والميزان والجنة والنار، فآمنوا بذلك، وخشوا ربهم فيه، ونحا إلى هذا قتادة والمعنى الثاني: أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس، أي في خلواتهم، ومنه تقول العرب: فلان سالم الغيب، أي لا يضر، فالمعنى يعملون بحسب الخشية في صلاتهم وعباداتهم، وانفرادهم، فالاحتمال الأول: مدح بالإخلاص والإيمان، والثاني: مدح بالأعمال الصالحة في الخلوات، وذلك أحرى أن يعملوها علانية، وقوله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} مخاطبة لجميع الخلق.
قال ابن عباس: سببها أن المشركين قال بعضهم لبعض: أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد فالمعنى أن الأمر سواء عند الله لأنه يعلم ماهجس في الصدور دون أن ينطق به، فكيف إذا ينطق به سرا أو جهرا، و{ذات الصدور}، ما فيها، وهذا كما قال: الذئب مغبوط بذي بطنه، وقد تقدم تفسيره غير ما مرة. وقوله تعالى: {ألا يعلم من خلق} اختلف الناس في إعراب: {من}، فقال بعض النحاة: إعرابها رفع، كأنه قال: ألا يعلم الخالق خلقه؟ فالمفعول على هذا محذوف، وقال قوم: إعرابها نصب، كأنه قد لا يعلم الله من خلق؟ قال مكي: وتعلق أهل الزيغ بهذا التأويل لأنه يعطي أن الذين خلقهم الله هم العباد من حيث قال: {من} فتخرج الأعمال عن ذلك، لأن المعتزلة تقول: العباد يخلقون أعمالهم.
قال القاضي أبو محمد: وتعلقهم بهذا التأويل ضعيف، والكلام مع المعتزلة في مسالة خلق الأعمال مأخذه غير هذا، لأن هذه الآية حجة فيها لهم ولا عليهم، والذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلول. فهي كركوب وحلوب، يقال: ذلول، بين الذل بضم الذال، واختلف المفسرون في معنى: المناكب، فقال ابن عباس: أطرافها وهي الجبال، وقال الفراء ومنذر بن سعيد: جوانبها، وهي النواحي، وقال مجاهد: هي الطرف والفجاج، وهذا قول جار مع اللغة، لأنها تنكب يمنة ويسرة، وينكب الماشي فيها، في مناكب. وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس، وفي التمتع فقي رزق الله تعالى، و{النشور}: الحياة بعد الموت.
{أأمِنْتُمْ منْ فِي السّماءِ أنْ يخْسِف بِكُمُ الْأرْض فإِذا هِي تمُورُ (16)}
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: {أأمنتم} بهمزتين مخففتين دون مد، وقرأ أبو عمرو ونافع: {النشور آمنتم} بمد وهمزة، وقرأ ابن كثير: {النشور وأمنتم} ببدل الهمزة واوا لكونها بعد ضمة وهو بعد الواو. وقوله تعالى: {من في السماء} جار على عرف تلقي البشر أوامر الله تعالى، ونزول القدر بحوادثه وخسف الأرض: أن تذهب سفلا، و{تمور} معناه: تذهب وتتموج كما يذهب التراب الموار وكما يذهب الدم الموار. ومنه قول الأعرابي: وغادرت التراب مورا، والحاصب: البرد وما جرى مجراه لأنه في اللغة الريح ترمي بالحصباء، ومنه قول الفرزدق: البسيط:
مستقبلين شمال الريح ترجمهم ** بحاصب كنديف القطن منشور

وقرأ جمهور السبعة: {فستعلمون} بالتاء، وقرأ الكسائي وحده: {فسيعلمون} بالياء، وقرأ السبعة وغيرهم: {نذير} بغير ياء على طريقهم في الفواصل المشبهة بالقوافي، وقرأ نافع في رواية ورش وحده: {نذيري} بالياء على الأصل، وكذلك في {نكيري} والنكير: مصدر بمعنى الإنكار، والنذير كذلك. ومنه قول حسان بن ثابت: الوافر:
فأنذر مثلها نصحا قريشا ** من الرحمن ان قلبت نذيري

.اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنّ الذين يخْشوْن ربّهُم بالغيب}
نظيره: {وخشِي الرحمن بالغيب} [ق: 33] وقد مضى الكلام فيه.
أي يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو بالغيب؛ وهو عذاب يوم القيامة.
{لهُم مّغْفِرةٌ} لذنوبهم {وأجْرٌ كبِيرٌ} وهو الجنة.
{وأسِرُّوا قولكُمْ أوِ اجْهرُوا بِهِ إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) ألا يعْلمُ منْ خلق وهُو اللّطِيفُ الْخبِيرُ (14)}
قوله تعالى: {وأسِرُّواْ قولكُمْ أوِ اجهروا بِهِ} اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخبر؛ يعني إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به ف {إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصدور} يعني بما في القلوب من الخير والشر.
ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام؛ فقال بعضهم لبعض: أسِرّوا قولكم كي لا يسمع ربّ محمد؛ فنزلت: {وأسِرُّواْ قولكُمْ أوِ اجهروا بِهِ}.
يعني: أسِرُّوا قولكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل في سائر الأقوال.
أوِ اجْهرُوا به، أعلنوه.
{إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصدور} ذات الصدور ما فيها؛ كما يسمّى ولد المرأة وهو جنين (ذا بطنها).
ثم قال: {ألا يعْلمُ منْ خلق} يعني ألا يعلم السرّ من خلق السرّ.
يقول أنا خلقت السرّ في القلب أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد.
وقال أهل المعاني: إن شئت جعات (من) اسما للخالق جل وعز ويكون المعنى ألا يعلن الخالق خلقه.
وإن شئت جعلته اسما للمخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق.
ولا بدّ أن يكون الخالق عالما بما خلقه وما يخلقه.
قال ابن المسّيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل: أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيْضة بصوت عظيم: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايِنِي: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم؛ منها {الْعلِيمُ} ومعناه تعميم جميع المعلومات.
ومنها {الخبيرُ} ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون.
ومنها {الْحكِيم} ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف.
ومنها (الشهيد) ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه ألا يغيب عنه شيء.
ومنها (الحافظ) ويختص بأنه لا ينسى.
ومنها (الْمُحصي) ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم؛ مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق؛ فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة.
وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق! وقد قال: {ألا يعْلمُ منْ خلق وهُو اللطيف الخبير}.
قوله تعالى: {هُو الذي جعل لكُمُ الأرض ذلُولا} أي سهلة تستقرّون عليها.
والذّلُول المنقاد الذي يذِلّ لك؛ والمصدر الذُّلِ وهو اللين والانقياد.
أي لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغِلظة.
وقيل: أي ثبتّها بالجبال لئلا تزول بأهلها؛ ولو كانت تتكفّأ متماثلة لما كانت منقادة لنا.
وقيل: أشار إلى التمكن من الزرع والغرس وشق العيون والأنهار وحفر الآبار.
{فامشوا فِي مناكِبِها} هو أمر إباحة، وفيه إظهار الامتنان.
وقيل: هو خبر بلفظ الأمر؛ أي لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها.
وقال ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب: {فِي مناكِبِها} في جبالها.
وروِي أن بشير بن كعب كانت له سُرِّية فقال لها: إن أخْبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرّة؟ فقالت: مناكبها جبالها.
فصارت حرة، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: دع ما يريبك إلى ما لايريبك.
مجاهد: في أطرافها.
وعنه أيضا: في طرقها وفجاجها.
وقاله السُّدّي والحسن.
وقال الكلْبي: في جوانبها.
ومنْكِبا الرجل: جانباه.
وأصل المنْكِب الجانب؛ ومنه منْكِب الرجل.
والريح النكباء.
وتنكّب فلان عن فلان.
يقول: امشوا حيث اردتم فقد جعلتها لكم ذلولا لا تمتنع.
وحكى قتادة عن أبي الجلد: أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ؛ فللسودان اثنا عشر ألفا، وللروم ثمانية الآف، وللفرس ثلاثة الآف، وللعرب ألف.
{وكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} أي مما أحلّه لكم؛ قاله الحسن.
وقيل: مما أتيته لكم.
{وإِليْهِ النشور} المرجع.
وقيل: معناه أن الذي خلق السماء لا تفاوت فيها، والأرض ذلولا قادر على أن ينشركم.
{أأمِنْتُمْ منْ فِي السّماءِ أنْ يخْسِف بِكُمُ الْأرْض فإِذا هِي تمُورُ (16)}
قال ابن عباس: أأمِنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه.
وقيل: تقديره أأمِنتم من في السماء قدرته وسلطانُه وعرشُه ومملكتُه.
وخصّ السماء وإن عمّ مُلْكُه تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء لا من يعظّمونه في الأرض.
وقيل: هو إشارة إلى الملائكة.
وقيل: إلى جبريل وهو الملك المُوكّل بالعذاب.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون.
{فإِذا هِي تمُورُ} أي تذهب وتجيء.
والموْر: الاضطراب بالذهاب والمجيء.
قال الشاعر:
رميْن فأقْصدْن القلوب ولن ترى ** دما مائرا إلاّ جرى في الحيازِم

جمع حيْزوم وهو وسط الصدر.
وإذا خُسف بإنسان دارت به الأرض فهو الموْر.
وقال المحققون: أمنتم من فوق السماء؛ كقوله: {فسِيحُواْ فِي الأرض} [التوبة: 2] أي فوقها لا بالمماسّة والتحيّز لكن بالقهر والتدبير.
وقيل: معناه أمنتم من على السماء؛ كقوله تعالى: {ولأُصلِّبنّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي عليها.
ومعناه أنه مديرها ومالكها؛ كما يقال: فلان على العراق والحجاز؛ أي واليها وأميرها.
والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة، مشيرة إلى العلو؛ لا يدفعها إلا مُلْحدٌ أو جاهل معاند.
والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السّفل والتّحت.
ووصفه بالعلوّ والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام.
وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القُدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته؛ كما جعل الله الكعبة قِبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ولا مكان له ولا زمان.
وهو الآن على ما عليه كان.
وقرأ قُنْبل عن ابن كثير {النشور} {وأمنتم} بقلب الهمزة الأولى واوا وتخفيف الثانية.
وقرأ الكوفيون والبصريون وأهل الشام سوى أبي عمرو وهشام بالتخفيف في الهمزتين، وخفّف الباقون.
وقد تقدم جميعه.
قوله تعالى: {أمْ أمِنتُمْ مِّن فِي السماء أن يُرْسِل عليْكُمْ حاصِبا} أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفِيل.
وقيل: ريح فيها حجارة وحصْباء.
وقيل: سحاب فيه حجارة.
{فستعْلمُون كيْف نذِيرِ} أي إنذاري.
وقيل: النذير بمعنى المنذر.
يعني محمدا صلى الله عليه وسلم فستعلمون صدقه وعاقبة تكذيبكم.
قوله تعالى: {ولقدْ كذّب الذين مِن قبْلِهِمْ} يعني كفار الأمم؛ كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدْين وأصحاب الرّسِّ وقومِ فرعون.
{فكيْف كان نكِيرِ} أي إنكاري وقد تقدّم.
وأثبت ورْش الياء في {نذيري}، و{نكيري} في الوصل.
وأثبتها يعقوب في الحالين.
وحذف الباقون اتباعا للمصحف. اهـ.